الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.معاني التقوى ومراتبها: {لّلْمُتَّقِينَ} أي المتصفين بالتقوى حالًا أو مآلًا، وتخصيصُ الهدى بهم لما أنهم المقتبسون من أنواره المنتفعون بآثاره، وإن كان ذلك شاملًا لكل ناظر، من مؤمن وكافر، وبذلك الاعتبار قال الله: {هُدًى لّلنَّاسِ} والمتقي اسمُ فاعلٍ من باب الافتعال من الوقاية وهي فرْطُ الصيانة.والتقوى في عُرف الشرع عبارةٌ عن كمال التوقي عما يضُره في الآخرة قال عليه السلام: «جُماعُ التقوى في قوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} الآية» وعن عمرَ بنِ عبد العزيز أنه تركُ ما حرم الله، وأداءُ ما فرضَ الله، وعن شَهْر بن حَوْشَب: المتقي من يترك ما لا بأسَ به حذرًا من الوقوع فيما فيه بأسٌ، وعن أبي يزيد: أن التقوى هو التورعُ عن كل ما فيه شبهة، وعن محمد بن خفيف: أنها مجانبةُ كلِّ ما يبعدك عن الله تعالى، وعن سهل: المتقي من تبرأ عَنْ حَوله وقدرته. وقيل التقوى: ألاّ يراك الله حيث نهاك، ولا يفقِدَك حيث أمرك. وعن ميمونِ بنِ مهران: لا يكون الرجلُ تقيًا حتى يكون أشدَّ محاسبةً لنفسه من الشريك الشحيحِ والسُلطانِ الجائر، وعن أبي تراب: بين يدي التقوى خمسُ عقباتٍ لا ينالها من لا يجاوِزُهن: إيثارُ الشدة على النعمة، وإيثارُ الضعفِ على القوة، وإيثارُ الذلِّ على العزة، وإيثارُ الجهد على الراحة، وإيثارُ الموتِ على الحياة، وعن بعض الحكماء أنه لا يبلغُ الرجل سَنامَ التقوى إلا أن يكون بحيث لو جُعل ما في قلبه في طبَقٍ فطِيفَ به في السوق لم يستحْيِ ممن ينظُر إليه. وقيل: التقوى أن تَزِين سِرَّك للحق، كما تَزينُ علانيتَك للخلق.والتحقيق أن للتقوى ثلاثَ مراتبَ:الأولى: التوقي عن العذاب المخلِّد بالتبرؤ عن الكفر، وعليه قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} والثانية: التجنبُ عن كل ما يُؤثِم من فعل أو ترك، حتى الصغائر عند قوم، وهو المتعارَفُ بالتقوى في الشرع، وهو المعنيُّ بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءامَنُواْ واتقوا} والثالثة: أن يتنزه عن كل ما يشغَلُ سرَّه عن الحق عز وجل، ويتبتّلَ إليه بكلّيته، وهي التقوى الحقيقيةُ المأمورُ بها في قوله تعالى: {مّسْتَقِيمٍ يا أيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} ولهذه المرتبة عَرْضٌ عريض يتفاوت فيه طبقاتُ أصحابها حسَب تفاوتِ درجاتِ استعداداتهم الفائضةِ عليهم بموجَب المشيئةِ الإلهية، المبنيّةِ على الحِكَم الأبية، أقصاها ما انتهى إليه هممُ الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام، حيث جمعوا بذلك بين رياسَتي النبوةِ والولاية، وما عاقهم التعلقُ بعالم الأشباحِ عن العروجِ إلى معالم الأرواح، ولم تصُدَّهم الملابسةُ بمصالح الخلقِ عن الاستغراق في شئون الحق، لكمال استعدادِ نفوسِهم الزكيةِ المؤيدةِ بالقوة القدسية، وهدايةُ الكتابِ المبين شاملةٌ لأرباب هذه المراتب أجمعين، فإن أريد بكونه هدىً للمتقين إرشادُه إياهم إلى تحصيل المرتبة الأولى ونيلِها، فالمرادُ بهم المشارفون للتقوى مجازًا، لاستحالة تحصيلِ الحاصل، وإيثارُه على العبارة المعرِبةِ عن ذلك للإيجاز، وتصديرِ السورة الكريمةِ بذكر أوليائه تعالى وتفخيمِ شأنهم.وإن أريد به إرشادُه إلى تحصيل إحدى المرتبتين الأخيرتين، فإن عنى بالمتقين أصحابَ الطبقةِ الأولى تعيَّنت الحقيقة، وإن عنى بهم أصحاب إحدى الطبقتين الأخيرتين تعيَّن المجاز، لأن الوصولَ إليهما إنما يتحقق بهدايته المترقَّبة، وكذا الحال فيما بين المرتبةِ الثانية والثالثة، فإنه إن أريد بالهدى الإرشادُ إلى تحصيل المرتبةِ الثالثة، فإن عنى بالمتقين أصحابَ المرتبة الثانيةِ تعيَّنت الحقيقة، وإن عنى بهم أصحابَ المرتبةِ الثالثةِ تعيَّن المجاز، ولفظُ الهدايةِ حقيقةٌ في جميع الصور، وأما إن أريد بكونه هدىً لهم تثبيتُهم على ما هم عليه أو إرشادُهم إلى الزيادة فيه على أن يكون مفهومُها داخلًا في المعنى المستعمل فيه فهو مجازٌ لا محالة، ولفظُ المتقين حقيقةٌ على كل حال، واللامُ متعلقةٌ بهدىً أو بمحذوفٍ وقع صفةً له، أو حالًا منه، ومحلُ {هدى} الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف، أي هو هدى، أو خبرٌ مع لا ريب فيه لذلك الكتاب، أو مبتدأٌ خبرُه الظرفُ المقدم، كما أشير إليه، أو النصبُ على الحالية من {ذلك} أو من {الكتاب} والعامل معنى الإشارة، أو من الضمير في {فيه} والعاملُ ما في الجار والمجرور من معنى الفعل المنفي، كأنه قيل: لم يحصُلْ فيه الريبُ حال كونه هاديًا، على أنه قيدٌ للنفي لا للمنفيّ، وحاصلُه انتفاءُ الريبِ فيه حال كونه هاديًا، وتنكيرُه للتفخيم، وحملُه على الكتاب إما للمبالغة، كأنه نفسُ الهدى، أو لجعل المصدر بمعنى الفاعل.هذا والذي يستدعيه جزالةُ التنزيلِ في شأن ترتيب هذه الجُمل أن تكون متناسقةً تقرِّرُ اللاحقةُ منها السابقة، ولذلك لم يتخلل بينها عاطف، ف {ألم} جملةٌ برأسها على أنها خبرٌ لمبتدأ مضمر، أو طائفةٌ من حروف المُعجم مستقلةٌ بنفسها دالةٌ على أن المتحدَّى به هو المؤلَّفُ من جنس ما يؤلِّفون منه كلامَهم، و{ذلك الكتابُ} جملةٌ ثانيةٌ مقرِّرةٌ لجهة التحدي، لما دلت عليه من كونه منعوتًا بالكمال الفائق، ثم سجل على غاية فضلِه بنفي الريبِ فيه، إذ لا فضلَ أعلى مما للحق واليقين، و{هدى للمتقين} مع ما يقدَّر له من المبتدأ جملةٌ مؤكدةٌ لكونه حقًا لا يحوم حوله شائبةُ شكٍ ما، ودالةٌ على تكميله بعد كمالِه، أو يستتبعُ السابقة منها اللاحقةُ استتباعَ الدليل للمدلول، فإنه لما نبَّه أولًا على إعجاز المتحدَّى به من حيث إنه من جنس كلامِهم، وقد عجَزوا عن معارضته بالمرة، ظهر أنه الكتابُ البالغُ أقصى مراتبِ الكمال، وذلك مستلزمٌ لكونه في غاية النزاهة عن مظنّة الريب، إذ لا أنقصَ مما يعتريه الشك، وما كان كذلك كان لا محالة هدىً للمتقين، وفي كلَ منها من النُكت الرائقةِ والمزايا الفائقةِ ما لا يخفى جلالةُ شأنه حسبما تحققته. اهـ..من فوائد ابن عرفة في الآية: قال رحمه الله:قوله تعالى: {ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ} أورد الزمخشري هنا سؤالا قال: الإشارة بذلك للبعيد وهو هنا قريب.وأجاب بأن المراد القرب المعنوي.قال ابن عرفة: السؤال غير وارد لأنه أجاب في غير هذا الموضع في قوله تعالى: {فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} وفي قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} لأن الإشارة بلفظ البعيد للقريب على سبيل التَّعظيم وهو معنى يذكره البيانيون.قال: وعبر عنه باسم الإشارة دون ضمير الغيبة تنبيها على أنه كالمحسوس المشار إليه فهو دليل على عظمته في النفوس.وقوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} إما خبر في هذا معنى النهي وإما خبر على بابه والمراد إما نفي وقوع ذلك حقيقة.فيكون عاما مخصوصا بمن ارتاب فيه، أو المراد لا ينبغي فيه ريب أي ليس بأهل لأن يرتاب فيه أحد.قال: ومن الناس من يقف على {لاَ رَيْبَ} وكان بعضهم يتعقبه بأن فيه شبه تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه، ومنهم من وقف على {لاَ رَيْبَ فِيهِ} وعادتهم بأنهم يصوّبونه بأنه يبتدئ بقوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} فجعله خبر مبتدإ مضمر، أي هو هدى فيكون القرآن كله {هُدى} أي هو نفس الهدى، فهو أبلغ ممن جعل الهدى فيه.فإن قلت: أخر المجرور هنا وقدمه في قوله: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} {وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} فالجواب أن المراد نفي الرّيب بالإطلاق.فيتناول جميع الكتب من التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، فليس نفي الريب خاصا بالقرآن فقط بل هو عام بخلاف ما لو قيل لا فيه ريب، لأوهم خصوص النفي به وبخلاف: {وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} فإنّ الغشاوة خاصة بأبصارهم دون أبصار المؤمنين. اهـ..من فوائد الألوسي في الآية: قال رحمه الله:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ}.جملة مستأنفة وابتداء كلام أو متعلقة بما قبلها وفيه احتمالات أطالوا فيها وكتاب الله تعالى يحمل على أحسن المحامل وأبعدها من التكلف وأسوغها في لسان العرب وذلك إشارة إلى الكتاب الموعود به صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] كما قال الواحدي أو على لسان موسى وعيسى عليهما السلام لقوله تعالى: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ} [البقرة: 98] الآية ويؤيده ما روى عن كعب عليكم بالقرآن فإنه فهم العقل ونور الحكمة وينابيع العلم وأحدث الكتب بالله عهدًا، وقال في التوراة: يا محمد إني منزل عليك توراة حديثة تفتح بها أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا كما قاله غير واحد أو إلى ما بين أيدينا والإشارة بذلك للتعظيم وتنزيل البعد الرتبي منزلة البعد الحقيقي كما في قوله تعالى: {فذلكن الذي لُمْتُنَّنِى فِيهِ} [يوسف: 2 3] كما اختاره في المفتاح أو لأنه لما نزل عن حضرة الربوبية وصار بحضرتنا بعد ومن أعطى غيره شيئًا أو أوصله إليه أو لاحظ وصوله عبر عنه بذلك لأنه بانفصاله عنه بعيد أو في حكمه، وقد قيل: كل ما ليس في يديك بعيد.ولما لم يتأت هذا المعنى في قوله تعالى: {هذا كتابنا أنزلناه} [الأنعام: 2 9] لأنه إشارة إلى ما عنده سبحانه لم يأتِ بذلك مع بعد الدرجة وهذا الذكر حروف التهجي في الأول وهي تقطع بها الحروف وهو لا يكون إلا في حقنا وعدم ذكرها في الثاني فلذا اختلف المقامان وافترقت الإشارتان كما قاله السهيلي، وهو عند قوم تحقيق ويرشدك إلى ما فيه عندي نظر دقيق وأبعد بعضهم فوجه البعد بأن القرآن لفظ وهو من قبيل الأعراض السيالة الغير القارة فكل ما وجد منه اضمحل وتلاشى وصار منقضيًا غائبًا عن الحس وما هو كذلك في حكم البعيد، وقيل لأن صيغة البعيد والقريب قد يتعاقبان كقوله تعالى في قصة عيسى عليه السلام: {ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} [آل عمران: 8 5] ثم قال تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق} [آل عمران: 26] وله نظائر في الكتاب الكريم ونقله الجرجاني عن طائفة وأنشدوا:وليس بنص لاحتمال أن يكون المراد إنني أنا ذلك الذي كنت تحدث عنه وتسمع به، وقول الإمام الرازي: إن ذلك للبعيد عرفًا لا وضعًا فحمله هنا على مقتضى الوضع اللغوي لا العرفي مخالف لما نفهمه من كتب أرباب العربية وفوق كل ذي علم عليم والقول بأن الإشارة إلى التوراة والإنجيل كما نقل عن عكرمة إن كان قد ورد فيه حديث صحيح قبلناه وتكلفنا له وإلا ضربنا به الحائط وما كل احتمال يليق، وأغرب ما رأيناه في توجيه الإشارة أنها إلى الصراط المستقيم في الفاتحة كأنهم لما سألوا الهداية لذلك قيل لهم ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب وهذا إن قبلته يتبين به وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد على أتم وجه وتكون الإشارة إلى ما سبق ذكره والذي تنفتح له الآذنت أنه إشارة إلى القرآن ووجه البعد ما ذكره صاحب المفتاح ونور القريب يلوح عليه، والمعتبر في أسماء الإشارة هو الإشارة الحسية التي لا يتصور تعلقها إلا بمحسوس مشاهد فإن أشير بها إلى ما يستحيل إحساسه نحو: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ} [غافر: 2 6] أو إلى محسوس غير مشاهد نحو {تِلْكَ الجنة} [مريم: 3 6] فلتصييره كالمشاهد وتنزيل الإشارة العقلية منزلة الحسية كما في الرضى فالإشارة هنا لا تخلو عن لطف، وقول بعضهم إن اسم الإشارة إذا كان معه صفة له لم يلزم أن يكون محسوسًا وهم محسوس والكتاب كالكتب مصدر كتب ويطلق على المكتوب كاللباس بمعنى الملبوس والكتب كما قال الراغب ضم أديم إلى أديم بالخياطة، وفي المتعارف ضم الحروف بعضها إلى بعض والأصل في الكتابة النظم بالخط وقد يقال ذلك للمضموم بعضه إلى بعض باللفظ ولذا يستعار كل واحد للآخر ولذا سمي كتاب الله وإن لم يكن كتابًا والكتاب هنا إما باق على المصدرية وسمي به المفعول للمبالغة أو هو بمعنى المفعول وأطلق على المنظوم عبارة قبل أن تنظم حروفه التي يتألف منها في الخط تسمية بما يؤل إليه مع المناسبة وقول الإمام إن اشتقاق الكتاب من كتبت الشيء إذا جمعته وسميت الكتيبة لاجتماعها فسمي الكتاب كتابًا لأنه كالكتيبة على عساكر الشبهات أو لأنه اجتمع فيه جميع العلوم أو لأن الله تعالى ألزم فيه التكاليف على الخلق كلام ملفق لا يخفى ما فيه، ويطلق الكتاب كالقرآن على المجموع المنزل على النبي المرسل صلى الله عليه وسلم وعلى القدر الشائع بين الكل والجزء ولا يحتاج هنا إلى ما قيل في دفع المغالطة المعروفة بالجذر الأصم ولا أرى فيه بأسًا إن احتجته واللام في الكتاب للحقيقة مثلها في أنت الرجل والمعنى ذلك هو الكتاب الكامل الحقيق بأن يخص به اسم الكتاب لغاية تفوقه على بقية الأفراد في حيازة كمالات الجنس حتى كأن ما عداه من الكتب السماوية خارج منه بالنسبة إليه، وقال ابن عصفور: كل لام وقعت بعد اسم الإشارة وأي في النداء وإذا الفجائية فهي للعهد الحضوري وقرئ: {تنزيل الكتاب} والريب الشك وأصله مصدر رابني الشيء إذا حصل فيك الريبة وهي قلق النفس ومنه ريب الزمان لنوائبه فهو مما نقل من القلق إلى ما هوشبيه به ويستعمل أيضًا لما يختلج في القلب من أسباب الغيظ، وقول الإمام الرازي: إن هذين قد يرجعان إلى معنى الشك لأن ما يخاف من الحوادث محتمل فهو كالمشكوك وكذلك ما اختلج في القلب فإنه غير مستيقن مستيقن رده، فالمنون من الريب أو يشك فيه ويختلج في القلب من أسباب الغيظ على الكفار مثلًا مما {لا ريب فيه} أو فيه ريب وفرق أبو زيد بين رابني وأرابني فيقال رابني من فلان أمر إذا كنت مستيقنا منه بالريب وإذا أسأت به الظن ولم تستيقن منه قلت أرابني وعليه قول بشار: وبعض فرق بين الريب والشك بأن الريب شك مع تهمة، وقال الراغب: الشك وقوف النفس بين شيئين متقابلين بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر بأمارة، والمرية التردد في المتقابلين وطلب الأمارة من مرى الضرع أي مسحه للدر، والريب أن يتوهم في الشيء ثم ينكشف عما توهم فيه، وقال الجولي: يقال الشك لما استوى فيه الاعتقادان أو لم يستويا ولكن لم ينته أحدهما لدرجة الظهور الذي تنبني عليه الأمور والريب لما لم يبلغ درجة اليقين وإن ظهر نوع ظهور ولذا حسن هنا {لاَ رَيْبَ فِيهِ} للإشارة إلى أنه لا يحصل فيه ريب فضلًا عن شك ونفى سبحانه الريب فيه مع كثرة المرتابين لا كثَّرهم الله تعالى على معنى أنه في علو الشأن وسطوع البرهان بحيث لا يرتاب العاقل بعد النظر في كونه وحيًا من الله تعالى لا أن لا يرتاب فيه حتى لا يصح ويحتاج إلى تنزيل وجود الريب عن البعض منزلة العدم لوجود ما يزيله، وقيل إنه على الحذف كأنه قال لا سبب ريب فيه لأن الأسباب التي توجبه في الكلام التلبيس والتعقيد والتناقض والدعاوى العارية عن البرهان وكل ذلك منتف عن كتاب الله تعالى، وقيل معناه النهي وإن كان لفظه خبرًا أي لا ترتابوا فيه على حد {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} [البقرة: 7 9 1] وقيل معناه لا ريب فيه للمتقين فالظرف صفة و{لّلْمُتَّقِينَ} خبر و{هُدًى} حال من الضمير المجرور أي لا ريب كائنًا فيه للمتقين حال كونه هاديًا وهي حال لازمة فيفيد انتفاء الريب في جميع الأزمنة والأحوال ويكون التقييد كالدليل على انتفاء الريب و{لا} لنفي اتصاف الاسم بالخبر لا لنفي قيد الاسم فلا تتوجه إليه ليختل المعنى نعم هو قول قليل الجدوى مع أن الغالب في الظرف الذي بعد لا هذه كونه خبرًا وإنما لم يقل سبحانه لا فيه ريب على حد {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 7 4] لأن التقديم يشعر بما يبعد عن المراد وهو أن كتابًا غيره فيه الريب كما قصد فيه الآية تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها فليس فيها ما في غيرها من العيب قاله الزمخشري، وبعضهم لم يفرق بين ليس في الدار رجل وليس رجل في الدار حتى أنكر أبو حيان إفادة تقديم الخبر هنا الحصر وهو مما لا يلتفت إليه، وقرأ سليم أبو الشعثاء {لا ريب فيه} بالرفع وهو لكونه نقيضًا لريب فيه وهو محتمل لأن يكون إثباتًا لفرد ونفيه يفيد انتفاءه فلا يوجب الاستغراق كما في القراءة المشهورة ولهذا جاز لا رجل في الدار بل رجلان دون لا رجل فيها بل رجلان فلا لعموم النفي لا لنفي العموم والواقف على {فِيهِ} هو المشهور وعليه يكون الكتاب نفسه هدى وقد تكرر ذلك في التنزيل وعن نافع وعاصم الوقف على {لاَ رَيْبَ} ولا ريب في حذف الخبر، وذهب الزجاج إلى جعل {لاَ رَيْبَ} بمعنى حقًا فالوقف عليه تام إلا أنه أيضًا دون الأول، وقرأ ابن كثير فيهي بوصل الهاء ياء في اللفظ وكذلك كل هاء كناية قبلها ياء ساكنة فإن كان قبلها ساكن غير الياء وصلها بالواو ووافقه حفص في {فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 96] و{ملاقيه} [الإنشقاق: 6] و{سأصليه} [المدثر: 6 2]، والباقون لا يشبعون وإذا تحرك ما قبل الهاء أشبعوه، وقرأ الزهري وابن جندب بضم الهاء من الكنايات في جميع القرآن على الأصل والهدى في الأصل مصدر هدى أو عوض عن المصدر وكل في كلام سيبويه ولم يجئ من المصادر بهذه الزنة إلا قليل كالتقى، والسرى، والبكى بالقصر في لغة ولقى كما قال الشاطبي وأنشد: والمراد منه هنا اسم الفاعل بأحد الوجوه المعروفة في أمثاله وهو لفظ مؤنث عند ابن عطية ومذكر عند اللحياني وبنو أسد يؤنثون كما قال الفراء فهو كالهداية وقد تقدم معناها وفي الكشاف هي الدلالة الموصلة إلى البغية واستدل عليه بثلاثة وجوه:الأول: وقوع الضلال في مقابله كما في قوله تعالى: {لعلى هُدًى أَوْ في ضلال} [سبأ: 42] والضلال عبارة عن الخيبة وعدم الوصول إلى البغية فلو لم يعتبر الوصول في مفهوم الهدى لم يتقابلا لجواز الاجتماع بينهما.والثاني: أنه يقال مهدي في موضع المدح كمهتد ومن حصل الدلالة من غير الاهتداء لا يقال له ذلك فعلم أن الايصال معتبر في مفهومه.والثالث: أن اهتدى مطاوع هدى ولن يكون المطاوع في خلاف معنى أصله ألا ترى إلى نحو كسره فانكسر وفيه بحث أما أولًا: فلأن المذكور في مقابلة الضلالة هو الهدى اللازم بمعنى الاهتداء مجازًا أو اشتراكًا وكلامنا في المتعدي ومقابلة الاضلال ولا استدلال به إذ ربما يفسر بالدلالة على ما لا يوصل ولا يجعله ضالًا على أنه لو فسرت الهداية بمطلق الدلالة على منها من شأنه الإيصال أوصل أم لا، وفسر الضلال المقابل لها وتقابل الإيجاب والسلب بعدم تلك الدلالة المطلقة لزم منه عدم الوصول لأن سلب الدلالة المطلقة سلب للمقيدة إذ سلب الأعم يستلزم سلب الأخص فليس في هذا التقابل ما يرجح المدعي، وأما ثانيًا: فلأنا لا نسلم أن الضلالة عبارة عن الخيبة الخ بل هو العدول عن الطريق الموصل إلى البغية فيكون الهدى عبارة عن الدلالة على الطريق الموصل، نعم إن عدم الوصول إلى البغية لازم للضلالة ويجوز أن يكون اللازم أعم، وأما ثالثًا: فلأنه لا يلزم من عدم إطلاق المهدي إلا على المهتدي أن يكون الوصول معتبرًا في مفهوم الهدى لجواز غلبة المشتق في فرد من مفهوم المشتق منه، وأما رابعًا: فلأنا لا نسلم أن اهتدى مطاوع هدى بل هو من قبيل أمره فأتمر من ترتب فعل يغاير الأول فإن معنى هداه فاهتدى دله على الطريق الموصل فسلكه بدليل أنه يقال هداه فلم يهتد على أن جمعا يعتد بهم قالوا: لا يلزم من وجود الفعل وجود مطاوعه مطلقا ففي المختار لا يجب أن يوافق المطاوع أصله ويجب في غيره ويؤيده قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] مع قوله سبحانه: {وَنُخَوّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا} [الإسراء: 60] فقد وجد التخويف بدون الخوف ولا يقال كسرته فما انكسر والفرق بينهما مفصل في عروس الأفراح.وأما خامسًا: فلأن ما ذكره معارض بما فيه الهداية وليس فيه وصول إلى البغية وقد مر بعضه ولهذا اختلفوا هل هي حقيقة في الدلالة المطلقة مجاز في غيرها أو بالعكس أو هي مشتركة بينهما أو موضوعة لقدر مشترك؟ وإلى كل ذهب طائفة، وقيل والمذكور في كلام الأشاعرة أن المختار عندهم ما ذكر في الكشاف وعند المعتزلة ما ذكرناه والمشهور هو العكس والتوفيق بأن كلام الأشاعرة في المعنى الشرعي والمشهور مبني على المعنى اللغوي أو العرفي يخدشه اختيار صاحب الكشاف مع تصلبه في الاعتزال ما اختاره مع أن الظاهر في القرآن المعنى الشرعي فالأظهر للموفق عكس هذا التوفيق، والحق عند أهل الحق أن الهداية مشتركة بين المعنيين المذكورين وعدم الاهلاك وبه يندفع كثير من القال والقيل والمتقين جمع متق اسم فاعل من وقاه فاتقى ففاؤه واو لا تاء، والوقاية لغة الصيانة مطلقًا وشرعًا صيانة المرء نفسه عما يضر في الآخرة والمراتب متعددة لتعدد مراتب الضرر فأولاها: التوقي عن الشرك؛ والثانية: التجنب عن الكبائر ومنها الاصرار على الصغائر والثالثة: ما أشير إليه بما رواه الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس» وفي هذه المرتبة يعتبر ترك الصغائر ولذا قيل: وفي هذه المرتبة اختلفت عبارات الأكابر، فقيل: التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك، وقيل: التبري عن الحول والقوة، وقيل: التنزع عن كل ما يشغل السر عن الحق، وفي هذا الميدان تراكضت أرواح العاشقين وتفانت أشباح السالكين حتى قال قائلهم: وهداية الكتاب المبين شاملة لأرباب هذه المراتب أجمعين فإن أريد بكونه هدى للمتقين إرشاده إياهم إلى تحصيل المرتبة الأولى: فالمراد بهم المشارفون مجازًا لاستحالة تحصيل الحاصل وإيثاره على العبارة المعربة عن ذلك للإيجاز، وتصدير السورة الكريمة بذكر أوليائه تعالى وتفخيم شأنهم واعتبار المشارفة بالنظر إلى زمان نسبة الهدى فلا ينافي حسن التعقيب ب {الذين يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 3] لأن ذلك كما قيل بالنظر إلى زمان إثبات تلك النسبة كما يقال قتل قتيلًا دفن في موضع كذا وربما جعل التقدير هم الذين في جواب من المتقون؟ وحمل الكل على المشارفة يأباه السوق وقد يقال المتقين مجاز بالمشارفة والصفة ترشيح بلا مشارفة ولا تجوز كما هو المعهود في أمثاله ونقول هو على حد نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الشفيع يوم المحشر فلا إشكال وإن أريد به إرشاده إلى تحصيل إحدى المرتبتين الأخيرتين فإن عنى بالمتقين أصحاب المرتبة الأولى تعينت الحقيقة وإن عنى بهم أصحاب الطبقتين الأخيرتين تعين المجاز لأن الوصول إليهما إنما يتحقق بهدايته المرقية، وكذا الحال فيما بين المرتبة الثانية والثالثة فإن أريد بالهدى الإرشاد إلى تحصيل المرتبة الثالثة فإن عنى بالمتقين أصحاب المرتبة الثانية تعينت الحقيقة وإن عنى بهم أصحاب المرتبة الثالثة تعين المجاز، ولفظ الهداية حقيقة في جميع الصور وأما إن أريد بكونه هدى لهم تثبيتهم على ما هم عليه وإرشادهم إلى الزيادة فيه على أن يكون مفهومها داخلًا في المعنى المستعمل فيه فهو مجاز محالة ولفظ {المتقين} حقيقة على كل حلالة كذا حققه مولانا مفتى الديار الرومية ومنه يعلم اندفاع ما قيل أن الهداية إن فسرت بالدلالة الموصلة يقتضي أن يكون {هدى للمتقين} دالًا على تحصيل الحاصل كأنه قيل دلالة موصلة إلى المطلوب للواصلين إليه وإن فسرت بالدلالة على ما يوصل كان هناك محذورًا آخر فإن المهتدي إلى مقصوده يكون دلالته على ما يوصله إليه لغوًا، ووجه الاندفاع ظاهر لكن حقق بعض المحققين أن الأظهر أنه لا حاجة إلى التجوز هنا لأنه إذا قيل السلاح عصمة للمعتصم والمال غنى للغني على معنى سبب غناه وعصمته لم يلزم أن يكون السلاح والمال سبى عصمة وغنى حادثين غير ما هما فيه، فما نحن فيه غير محتاج للتأويل وليس من المجاز في شيء إذ المتقى مهتدٍ بهذا الهدى حقيقة، وقد اختلف أهل العربية والأصول في الوصف المشتق هل هو حقيقة في الحال أو الاستقبال وهل المراد زمان النسبة أو التكلم من غير واسطة بينهما؟ والذي عليه المحققون أنه زمن النسبة، وقد ذهب السبكي والكرماني إلى أن من قتل قتيلًا فله سلبه حقيقة وخطأ من قال أنه مجاز ولا يقال إنه لا مفاد لإثبات القتل لمقتول به لأن قصد البليغبمعونة القرينة العقلية أن القتل المتصف به صادر عن هذا القاتل دون غيره فكأنه قيل لم يشاركه فيه غيره فسلبه له دون غيره، ومكن هنا جعل المعنى فيما نحن فيه لا هدى للمتقين إلا بكتاب اللهتعالى المتلألئ نور هدايته الساطع برهان دلالته وإذا علق حكم على اسم الإشارة الموصوف نحو عصرت هذا الخل مثلًا فهناك تعليقان في الحقيقة تعليق الحكم السابق بذات المشار إليه وتعليق الإشارة والمعتبر زمان الإشارة لا زمان الحكم السابق فإذا صحّ إطلاق الخل على المشار إليه واتصافه بالخلية مثلًا في زمان الإشارة مع قطع النظر عن الحكم السابق كان حقيقة وإلا فمجاز فافهم وتدبر.ثم لا يقدح في كونه هدى ما فيه من المجمل والمتشابه لأنه لا يستلزم كونه هدى هدايته باعتبار كل جزء منه فيجوز أن يذكر فيه ما فيه ابتلاء لذوي الألباب من الفحول بما لا تصل إليه الإفهام والعقول أو لأن ذلك لا ينفك عن بيان المراد منه كما ذهب إليه الشافعية فهو بعد التبيين هدى وتوقف هدايته على شيء لا يضر فيها كما أنه على رأي متوقف على تقدّم الإيمان بالله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقد نص الإمام على أنه كل ما يتوقف صحة كون القرآن حجة على صحته لا يكون القرآن هدي فيه كمعرفة ذات الله وصفاته ومعرفة النبوات لئلا يلزم الدور إلا أن يكون هدي في تأكيد ما في العقول والاعتداد به، وبعض صحح أن القرآن في نفسه مدى في كل شيء حتى معرفة الله تعالى لمن تأمل في أدلته العقلية وحججه اليقينية كما يشعر به ظاهر قوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدي للناس} [البقرة: 185] ويكون الاقتصار على المتقين هنا بناء على تفسيرنا الهداية مدحًا لهم ليبين سبحانه أنهم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها} [النازعات: 45] مع عموم إنذاره صلى الله عليه وسلم وأما غيرهم فلا {وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا} [الإسراء: 5 4] و{لا يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا} [الإسراء: 2 8] وأما القول بأن التقدير هدى للمتقين والكافرين فحذف لدلالة المتقين على حد {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 1 8] فمما لا يلتفت إليه هذا ولا يخفى ما في هذه الجمل والآيات من التناسق ف {الم} أشارت إلى ما أشارت و{ذلك الكتاب} قررت بعض إشارتها بأنه الكتاب الكامل الذي لا يحق غيره أن يسمى كتابًا في جنسه أي باب التحدي والهداية و{لاَ رَيْبَ فِيهِ} كالتأكيد لأحد الركنين و{هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} كالتأكيد للركن الآخر.وخلاصته هو الحقيق بأن يتحدى به لكمال نظمه في باب البلاغة وكماله في نفسه وفيما هو المقصود منه، وقيل: بالحمل على الاستئناف كأنه سئل ما باله صار معجزًا؟ فأجيب بأنه كامل بلغ أقصى الكمال لفظًا ومعنى وهو معنى ذلك الكتاب ثم سئل عن مقتضى الاختصاص بكونه هو الكتاب الكامل فأجيب بأنه لا يحوم حوله ريب ثم لما طولب بالدليل على ذلك استدل بكونه {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} لظهور اشتماله على المنافع الدينية والدنيوية والمصالح المعاشية والمعادية بحيث لا ينكره إلا من كابر نفسه وعاند عقله وحسه، وقد يقال الاعجاز مستلزم غاية الكمال وغاية كمال الكلام البليغ ببعده من الريب والشبه لظهور حقيته وذلك مقتض لهدايته وإرشاده فإن نظر إلى اتحاد المعاني بحسب المال كان الثاني مقررًا للأول فلذا ترك العطف وإن نظر إلى أن الأول مقتض لما بعده للزومه بعد التأمل الصادق فالأول لاستلزامه ما يليه وكونه في قوته يجعله منزلا منه منزلة بدل الاشتمال لما بينهما من المناسبة والملازمة فوزانه وزان حسنها في أعجبتني الجارية حسنها وترك العطف حينئذ لشدة الاتصال بين هذه الجمل.وفيها أيضًا من النكت الرائقة والمزايا الفائقة ما لا يخفى جلالة قدره على من مرّ ما ذكرناه على فكره. اهـ.
|